بقلم: حازم صاغية
قبل 70 عاماً بالتمام
استقلّت الهند عن بريطانيا. بدا ذلك حدثاً أسطورياً يومها: فالبلد القاريّ الذي هو
«درة تاج» الإمبراطورية البريطانية أتيح له أن ينفصل عنها.
بالطبع باتت أسباب ذاك
الحدث الضخم الأهمية معروفة جداً: ففضلاً عن قوة الحركة الوطنية الهندية وتماسكها الذي
بدا يومذاك عابراً للأديان والمذاهب، كان التعب قد ألمّ ببريطانيا، سيّدة العالم القديم،
في ظل الحرب العالمية الثانية وتضحياتها الباهظة. كذلك كانت الدعوة الاستقلالية قد
انتشرت وعمّت في المستعمرات جميعاً. هكذا انطلقت عملية نزع الاستعمار لتتوسع في الخمسينيات
ثمّ خصوصاً في الستينيات.
لكن الحدث الهائل الأهمية
-استقلال الهند- ما لبث أن وُلد مترافقاً مع حدث لا يقل عنه أهمية: إنه الحرب الأهلية
داخل شبه القارة الهندية نفسها بين الهندوس والمسلمين، والتي نجمت عنها ولادة دولة
باكستان.
إذن، وفي ما بدا أشبه
بالمفارقة يومذاك، اصطبغ استقلال الهند باحتراب شبه القارة وبانشطاره إلى دولتين متعاديتين!
كذلك بدا غريباً لبعض العالم أن تنشأ دولة، هي باكستان، على أساس الدين. ذاك أن الفكرة
الرائجة في تلك الحقبة كانت الفكرة القومية المتعلمنة والمؤسسة على اعتبارات كالمواطنة
والثقافة واللغة والتاريخ، لكنْ حصراً لم يكن الدين في عداد هذه الاعتبارات.
بيد أن ما بدا مفارقاً
وغريباً في 1947 لم يعد كذلك لاحقاً. ومرّة أخرى جاءت المفاجأة- المفارقة من شبه القارّة
الهندية:
فدولة باكستان نفسها
إنما تعرضت للانشقاق الذي لم تحل دونه وحدة الدين. ذاك أن البلد الذي نشأ على أساس
التمايز عن الهندوسية الهندية ما لبث أن شهد في 1971 حرباً ضارية مع الهند نشأت بنتيجتها
دولة بنغلاديش المسلمة أيضاً.
لكنْ منذ أواخر السبعينيات،
باشرت سياسات الهوية صعودها على نطاق كونيّ، وهو ما لم يلبث أن اتخذ شكلاً صاروخياً.
هكذا لم يكن مصادفاً
أن تشهد الهند في أواخر السبعينيات أول هزيمة انتخابية لحزب المؤتمر، حزب المهاتما
غاندي وجواهر لال نهرو، الذي تولى قيادة البلد نحو الاستقلال ثم تأسيس الهند الحديثة.
وفي الوقت نفسه، وأيضاً للمرة الأولى، حصد حزب العمل الإسرائيلي، وهو مؤسس الدولة العبرية
وصانعها، هزيمته الانتخابية على يد ائتلاف ليكود القومي المتطرف بزعامة مناحيم بيغن.
لكن تسييس الدين انفجر
على نحو صارخ، في أكثر من بلد. هذا ما رأيناه خصوصاً بين 1978 و1980. إيران، بزعامة
آية الله الخميني، أعلنت ثورة دينية على الشاه انتهت بإقامة «جمهورية إسلامية» وحكم
«ولاية الفقيه». بولندا، التي تأسست فيها نقابة «تضامن» العمالية المستقلة، تحركت ضد
نظامها التابع لموسكو، بخليط وطني- ديني وبرعاية مباشرة من البابا الذي كان أول بولندي
يشغل سدة الفاتيكان. أفغانستان كانت تعلن «الجهاد» ضد الغزاة الروس الذين جاؤوها لدعم
النظام الشيوعي المتداعي في كابول.
بعد عام ونيف، نشبت
الحرب العراقية- الإيرانية التي دامت ثماني سنوات وكلّفت قرابة مليون قتيل، فيما بدا
نافراً البُعدان المذهبي والقومي في الحرب هذه.
لكن إضعاف الدولة الحديثة
والتمهيد للهويات الصغرى صدرا، في الفترة نفسها، عن مكان آخر من العالم. فما بين أواخر
السبعينيات وأوائل الثمانينيات صعدت الثاتشرية في بريطانيا والريغانية في الولايات
المتحدة الأميركية. وفضلاً عن التشدد في مواجهة الشيوعية والسوفييت، جمع بين هذين التيارين
السياسيين والإيديولوجيين نزوعهما إلى تقليص الدولة والحدّ من وظائفها وخدماتها. ذاك
أن «الدولة هي المشكلة» كما رأى رونالد ريغان، فيما «لا يوجد شيء اسمه المجتمع»، بحسب
عبارة شهيرة لمارغريت ثاتشر.
وبسبب الخصخصة وانكماش
الخدمات من جهة، وبدايات تفكّك الأنسجة الوطنية الجامعة من جهة أخرى، تعاظم الاحتماء
بالولاءات والهويات الصغرى التي علمت العالم مفاهيم الدولة والمجتمع الواحدين.
فهل نكون نبالغ إذا
قلنا إننا لا نزال نعيش في عالم رسمت الهند وباكستان معالمه الكبرى منذ ولادتهما في
1947؟
* نقلا عن صحيفة "الاتحاد"
الإماراتية